إنّ من أهمّ شروط المحدّدة لجنس السيرة الذاتيّة وجود وحدة بين المؤلّف الذي يبرز عبر اِسم العلم المذكور على غلاف الكتاب"طه حسين"،و يحيل على كائن له حضور تاريخيّ اِجتماعيّ،و يمتهن الكتابة،و يضطلع بمسؤوليّاتها،و الراوي الذي يتولّى وظيفة السّرد و الإخبار،و البطل الذي يعيش الأحداث و ينفعل لها.
و لكنّ توسّل الكاتب بضمير الغائب في الأثر عبر أجزائه الثلاثة،أو اِصطناعه لتسمية مبهمة أحيانا،من قبيل"صاحبنا"أو"الفتى"أو"شيخنا"
للحديث عن نفسه بطلا،أفضى إلى الإيهام بالاِفتراق و الاِختلاف بينه و بين الشخصيّة المركزيّة،ممّا اِنتهى ببعض الدارسين إلى اِعتبار"الأيّام"أقرب إلى الرواية أو"السيرة الغيريّة"منه إلى سيرة ذاتية،رغم تسليم القارئ-في وثوقيّة أو حدس-بأنّ طه حسين لا يروي غير سيرته الشخصيّة،و تبعا لذلك فإنّه يتّخذ من"أيّامه"موضوعا للسرد.
بل إنّ عدوله"بالأيام"عن معيار التطابق بين من يتحدّث و من يعيش التجارب،ساق البعض إلى إعدام مفهوم الجنس الأدبي كليّا و إلغائه من الأثر.
إنّ خدعة الاِنفصال بين الراوي الذي اِنكشف في صراحة من خلال عناوين فصول وضعها بنفسه مثل:"أستاذي يدعو عليّ بالشقاء"و"كيف سقطت في الإمتحان"و"المرأة التي أبصرت بعينيها"...-عبر ضمير المتكلّم"الأنا"،و الشخصيّة المتحدّث عنها بضمير الغائب-رغم ما شفّت عنه من جهد للإقناع بالموضوعيّة و الحياد في اِستنطاق الماضي و تأمّله،و رغبة في التخلّص من الحرج و الحياء،عند اِستبطان الذات.لم تخف الاِتّصال بين الراوي و البطل-صبيّا كان في الثالثة عشرة من عمره أو فتى في جامع الأزهر و في الجامعة المصريّة و الفرنسيّة أو أبا كهلا-ممّا يرسّخ العقيدة في التّماهي بين المتحدِّث و المتحدَّث عنه،أي بين من يسكن نسيج الخطاب و من يقيم داخل الخبر أو الرواية كما يعرضها السّرد.و قد تجلّى هذا الاِتّصال في إلمام الراوي بكلّ ما تعلّق بحياة الفتى"الأزهريّة"و"الجامعيّة"في أدنى تفاصيلها و إحاطته بما خفي من أحاسيسه و تقنّع من خصاله،و اِحتجب من عاداته،و مرافقته له في كلّ الفضاءات التي اِختلف إليها:الأزهر-القاهرة/ البيت العائلي-الريف/الجامعة المصرية-للقاهرة/باريس و مونبيليي-فرنسا،ليتولّى إثر ذلك إخبار المتلقّي عمّا يجهله من نضال"الفتى-الكاتب"و كفاحه في سبيل المعرفة علّه يتّخذ منه نموذجا يُحْتذى به.
تمضي"الأيّام"بأدب الاِعتراف خطوات نوعيّة في طريق التطوّر:رحابة عرض و دقّة تفاصيل و منهج تحليل..فيسبر السّارد أغوار نفسه،مفضيا بدواخله الحميمة،و عارضا لشخصيّته الإنسانيّة بمشاعرها الباطنيّة،و حاجاتها العاطفيّة التي لا تكاد تنقضي،و هكذا يعترف:"عاش إذن بين خوف ملحّ و رجاء ضئيل يعتاده بين حين و حين،فيتيح لنفسه شيئا من راحة و روح
و يعقد المؤلّف اِتّفاقا معلنا بينه و بين المتلقّي،يتعلّق بمصداقيّة النصّ،يؤكّد على أنّ الأخبار المرويّة و الأحداث هي حقائق تاريخيّة،حدّثت له على وجه اليقين أو شاهدها بنفسه،يستعيدها من واقع معيش على نحو مخصوص،في زمن السّرد المستعاد.
و قد جاء بالفصل الثامن من الجزء الثالث تحديد الزمان و المكان:"في الساعة الخامسة من مساء يوم الثلاثاء خامس مايو سنة 1914 بدار الجامعة.."لتاريخ حصول طه حسين على درجة الدكتوراه من الجامعة المصرية عن دراسة بعنوان"أبو العلاء المعري الأديب الكفيف المشهور"،و هذا يتطابق كليّا مع ما ورد في هذا الفصل حين قال:"..ناقشت الطالب في رسالته التي قدّمها في تاريخ أبي العلاء..".
كما يتّضح تماهي الكاتب مع"الفتى"من خلال تعاطفه معه و شفقته عليه وهو يصف أحواله الجسميّة الخارجية المزرية،و أوضاعه الغذائيّة البائسة،و يعدّد المشاقّ التي اِعترضت كفاحه من أجل الدراسة،و يعمد إلى تمجيد"الفتى"و مدحه من خلال اِستبطان ردود فعل الرّائي له،وهو مظهر العجب و الإعجاب بصمود الشخصيّة و قوّة عزمها،على عماها و فقرها المدقع.
و يتدخّل الراوي تدخّلا علنيّا صريحا لتبرير"زهد البطل في دروس الأزهر"على نحو يظهر رؤيته النقديّة لواقع التعليم الديني المهمّش في هذا الجامع و حبّه المفرط لنمط الدراسة في الجامعة،و اِنبهاره بأساتذته المستشرقين فذكر أغلب أسمائهم و الموادّ التي يدرّسونها.
و يبوح الراوي بما كتمه بطله طويلا من أسرار مؤذية قد تفضح أقرب الناس إليه و تشهّر بهم،لا سيّما هذا الأخ الذي قال فيه:"فقد كان أبوه يرسل إليه بين حين و حين جنيهات تبلغ العشرة مرّة و تزيد عليها مرّة أخرى و يكلّفه أن يرسلها إلى أخويه في أوروبا معونة لهما على الحياة.فكان يتلقّى هذه الجنيهات فإذا اِستقرّت في يده لم يسهل عليه إرسالها إلى أوروبا،و إنّما أنفقها في بعض شأن له".
و بذلك فاِصطناع طه حسين ضمير الغائب لا يكشف عن اِنفصال و قطيعة بين الراوي و البطل،بقدر ما ينطق عن ألفة بينهما تؤكّد أنّهما شخص واحد يتقاسمان دورين مختلفين متكاملين،و إن لم يكفّ السّارد من حين لآخر عن بسط نفوذه على بطله ليقدّمه على نحو يظهر عظمته التي بدأت مبكّرا،و تميّز عن الآخرين،واعدا بكائن غير عاديّ.
كيف لا وهو الذي اِمتدحه و أثنى عليه أثناء اِجتيازه اِمتحان شهادة الدكتوراه،فقال في شأنه:"و أصبح الفتى أوّل طالب مصريّ يرشّح نفسه في الجامعة المصرية للظّفر بدرجة الدكتوراه".
فماهي مختلف العراقيل و الصعوبات التي تخلّلت مسيرة النجاح و التألّق هذه؟
لذا كانت صورة الفتى بعد مضيّ أربعة أعوام في الأزهر،و نبإ الجامعة أولى الصّور المنبثقة من ركام الذكريات،خلّصت الذاكرة من قصورها و تعطّلها،فإِنثالت الأحداث إثرها فيضا،و أتاحت للراوي أن يؤرّخ لميلاد وعي بطله الفاجع بالعالم،و نشأة معرفته بالمحيط الخارجي(اِنشقاق الشعب المصري بين سعديّين و عدليّين-هول الحرب العالمية الأولى أثناء إقامته في فرنسا...)
و لم يقصر الكاتب دلالة الأزهر،أو الجامعة المصرية أو حتّى"الحيّ اللاتيني بفرنسا على البعد المكاني المادي الضيّق،بل شحنها بدلالات اِيجابيّة حافّة،جعلت منها رمزا لكلّ الحواجز التي كبّلت رغبات"الفتى"حظرا و منعا و كادت تنتصب عائقا دون تحقيق منشوده كعجز أسرته عن توفير حاجياته المادية بمواصلة دراسته في فرنسا و تدخّل بعض المسؤولين لمساعدته.
و السّمات السلبيّة التي تُعزى إمّا إلى عوامل خارجية موضوعية قاهرة تُختزَل أساسا في الموروث الاِجتماعي(فقر-خصاصة-حرمان...)و إمّا إلى معطى طبيعي مأساوي(عمى و عجز ناجم عن نحول)،تهدف في تضافرها إلى تجريده من سمات نبوغه،و سلبه أمارات تفوّقه،و القعود به عن أن يكون نموذجا،بل تؤهّله فحسب إلى أن يكون شخصا نكرة غَفِلا مزدرى في بيئة اجتماعية و ثقافية يغلب عليها التعليم الديني،مثلما وقع معه في جامع الأزهر عندما أصرّ بعض الشيوخ على إسقاطه في اِمتحان العالميّة،فقال السّارد في ذلك:"...أقبل من حمل المحفظة إلى الفتى إيذانا بأنّه سقط،و بأنّ اللجنة لا تريد أن يتمّ ما بقي له من الدروس".
بيد أنّ الفتى سعى إلى تحدّي كلّ هذه الحواجز و إبطالها بخصال ألفها القارئ كامنة في ذاته مؤازرة له ليصيّر ضعفه قوّة و عجزه اِستطاعة و حقارته عظمة و نقصه كمالا.إذ اِكتسب البطل قوّة نفسيّة تمثّلت في إرادة عاتية مكّنته من الصبر على المكاره حتّى"من ذوي القربى"،و في قوّة عقليّة تبلورت ظمأ للمعرفة و العلم هوّنت عليه مشاقّ الحياة الدراسية بمختلف مراحلها و ضروب الحرمان على قساوتها.فمن ذاته اِستوحى سبل خلاصه و تقدّمه،و على نفسه توكّل لينحت ملحمة الاِنتصار على الموجود،و يبدّد كلّ الجوانب التحقيرية التي شابت ظاهر شخصيّته ليتراءى أسوة في كفاحه و نضاله من أجل العلم و القيم الاِيجابية.و عبر كلّ ذلك،ماهي دواعي تدوين طه حسين لسيرته الذاتية؟
و المتمعّن في"الأيّام"عامة،و في الجزء الثالث خاصّة،يكتشف مقاصد متداخلة،منها تصفية الراوي الكهل حسابا مع بيئة لطالما آذت بطله"صبيّا و فتى"،و قمعت فيه إمكانا بالتميّز و وعدا بالنّبوغ(إهمال-فقر-جوع-أنانيّة..)،و أمعنت في اِضطهاد الكهل فكريّا بمصادرة كتابه"في الشعر الجاهلي"،خصوصا و قد اِتّهمته مجموعة من الشيوخ بالكفر و الإلحاد حين قالت فيه:"و الكتاب كلّه مملوء بروح الإلحاد و الزندقة...".لذا فقد عبّر كتاب"الأيّام"عن رغبة في اِنصاف"الصبيّ-الفتى"و الثأر للكهل.كما سعى الكاتب إلى إصلاح واقع اِجتماعيّ ثقافيّ من خلال التشهير بعيونه و نقائصه،و قد كان أحد ضحاياه،و إرساء قيم بديلة عمادها تقديس العقل و إجلال المعرفة و الإيمان بالاِستطاعة الإنسانيّة،بدل قيم متدهورة ملمحها الجهل و التخلّف و شيوع الخرافة و التصوّف و السّحر.
و اهتمّ المؤلّف في سيرته بالأوضاع الدوليّة و خاصّة الحرب العالمية حيث"نجد صاحبنا يفرّ بزوجته الحامل من قنابل باريس إلى مونبيليي"،و الأوضاع السياسية في مصر،فاِنتقد الصراعات بين الأحزاب و تناحرها ممّا أدّى إلى انقسامات في صفوف الشعب مثلما حدث بين السعديين و العدليين،و تطرّق طه حسين إلى مسائل جوهريّة كديموقراطيّة الدستور و حقوق الشعب،و الاِيمان بالحريّة و الثورة..و اِنشغل بالجوانب الثقافيَة فصوّر المعارك الأدبيّة في عصره و الحركات الأصلاحية.فتحدّث عن الحريّة العقليّة في تجربة"محمد عبده"و الحريّة السياسية عند"مصطفى كامل"و الحريّة الاِجتماعيّة لدى"قاسم أمين".بالإضافة إلى حديثه عن حياة الأدباء في"تلك الأيّام"و اِهتماماتهم الفنيّة،فصرّحت الكاتب بميولاته إلى الشعر العربي القديم و خاصة غرض الغزل أثناء تجربته مع صديقيه"الزيّات و الزّيّاني"فقال في ذلك:" وجد بين هؤلاء الفتية من كان يذهب مذهب جميل و كثير،و كان الحرمان المطلق محتوما عليه،كما كان منهم من يذهب مذهب أبي نواس و أصحابه،و كان حظّه من الحرمان أقلّ و نصيبه من النّعيم أكثر".
و نقد طه حسين نظام التعليم في جامع الأزهر لذلك أعلن عن "زهد الفتى في الدروس"التي تلقى فيه مقابل اِنبهاره بمحاضرات الجامعة،و عبر ذلك تطرّق إلى منزلة العقل و النقل في طريقتي التعليم في الأزهر أوّلا ثمّ في الجامعة المصريّة ثانيا.
و لعلّ الفخر بالذات و تصويرها على نحو يظهرها للقارئ مثالا يُحتذى و نموذجا يُقتدى به في مقاومته المبكّرة للعوائق و اِنتصاره عليها،و قلبه الوضعيّات السلبيّة إلى اِيجابية،و نحته للمصير على شاكلة المنشود،أحد أبرز أسباب كتابة"الأيّام".
بفضل قوّة الإرادة و الإيمان بالمعرفة و العلم أتاح الكهل لأسرته من الحياة الكريمة المنعّمة ما لم يتح له صغيرا،كذلك كان كتاب"الأيّام"سيرة تعلّم كيف يكون الإِنسان الأمثل،إنسان العقل و الفعل.
و هكذا تغمر الكتاب روح الشجاعة الفكريّة،و التّصالح الشفيف مع النّفس،و الصدق في القول،وهي سمات صاحبت حياة طه حسين منذ مطالع الشباب،و لتتواصل في فترة الكهولة وهو يخطّ"الأيّام"مرورا بحروبه التي لا تهدأ على الفتن و التشرذم و فساد القيم و الأحوال.
تلك هي"أيّام"الفتى الأزهري في القاهرة و في الجامعتين المصرية و الفرنسية،ألوان من الحرمان و التضحية،و مكابدة مستمرّة،لم تُدوَّن إشباعا لفضول القارئ بقدر ما كانت سموّا بالذات و تعظيما لها-و طه حسين في وضع الأديب المشهور"الممتلئ بتمركز الذات"-و عملا على تغيير ما بالعقول و النفوس من علل و نقائص مترسّبة،في لغة فنيّة و سرد مشوّق و حيل تقنيّة قامت على المناورة و المخاتلة،لجأ فيها الكاتب حينا إلى الظهور و الاِنكشاف،و التقنّع و التخفّي حينا آخر.و عموما،عندما تتكلّم الذات تنتشي رغم ما تسوقه في حديثها من اِعترافات.
و هكذا تأخذ السيرة الذاتية قارئها إلى فضاء الأقنعة بأسلوب اِنتقائيّ،فيه من فلسفة اللحظة ما ينسجم مع تواتريّة الجملة و حكمتها،كما ينطوي على حركة فعليّة مثقّفة،تدعم اِيقاع المنطوق الذاتي ليزداد التشويق،و تتعانق الأصوات و المشاهد و الأحداث و وحدات النصّ الأخرى.
فبين لحظات التقنّع و حالات الاِنكشاف،تبدو الذات الكاتبة في"الأيّام"واثقة بقدراتها،رغم أنّ"الأنا"-باِختيارها التخفّي في ضمير الغيبة-تريد أن تخرج من نفسها إلى"الهو أنا"كأنّها تبحث عن حضورها في هذا النوع من الغياب
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire